Dog Day Afternoon – 1975

“I’m dyin’ here, you know? I’m dyin”

“أردت أن أودعك، أو إن أحببت… يمكنك أن تأتي معي.” – سوني وورتزيك. 

لم يكن تردد سوني في الدخول لسرقة المصرف مع بداية فيلم (ظهيرة حارة) للمخرج سيدني لوميت أمراً غريباً على شخصيته، إذ يعتقد أن هذه اللحظات القليلة قبيل سطوه المسلح غير المنظم هذا، ستكون الأخيرة التي يعيشها هامشي الحضور في عالمه، فقد كان جندياً في حرب فيتنام كما أرادت حكومته، وموظفاً جيداً كما تطلبت مهنته، وطفلاً عديم الفائدة بنظر والده وبريئاً ساذجاً بحضن والدته، وزوجاً مُسيراً كما فرضت أطباع زوجته، من الطبيعي إذا، أن يكون السبب وراء قيامه بهذه الخطوة هو رغبته الشديدة بلعب دور رئيسي وبأخذ زمام المبادرة والسيطرة ولو لمرة واحدة في حياته. بيد أنه عندما يشعر بهول الورطة التي وقع فيها، يجد نفسه مكسور الخاطر مشطور الفؤاد، واصفاً دربه المسدود هذا في مكالمة هاتفية تزيد من مرارة ساعاته: “إني أموت هنا”… أموت لأجلك. 

كل ما يتطلب عليك فعله وأنت تشاهد الفيلم هو أن تتمعن بعيني ولكنة الممثل آل باتشينو، حيث يكشفان عن موهبته التي كان عليها في سبعيناته والتزامه المتأني في التعبير عن هلع وتوتر شخصية سوني حسب معطياته الاجتماعية والأجواء والأحداث المحيطة فيه. وبعد استعراض مسيرته الطويلة والناجحة، لعب فيها شخصيات وصلت للقمة قبل أن تودي بنفسها مجدداً إلى القاع وأحياناً أسفل من ذلك، بتجسيد غالباً ما يكون على قمة الحرفية، نلاحظ أن أداء آل باتشينو هنا يختلف عن ما شهدناه في بعض أدواره الأخرى المعروفة، بتقديمه لشخصيته دون تفجر ثمانيناته أو مبالغة تسعيناته، فلا نرى آل باتشينو بتاتاً، بل سوني وورتزيك بكل أوجاعه وصراعاته المرئية والمحسوسة. نشعر فعلاً أنه بات يتآكل من الداخل، ضحيةً لنفسه الورقية الهشة، ولأعواد ثقاب مجتمعه في آن، ولصيحته “أتيكا” التي تعكس حياةً عرف شهيقها وزفيرها حبيساً لقضبان رغبات الآخرين، مآثراً لرغباته الخاصة.

أتيكا هي إصلاحية تقع في بلدة بنفس الاسم بمدينة نيويورك، شهدت بعام 1971 احتجاجات صارخة من المساجين طالبوا فيها بالحصول على ظروف معيشية أفضل، حيث لم يكن يُسمح لهم الاستحمام سوى مرة واحدة في الأسبوع واستخدام لفة واحدة من ورق التواليت في شهر كله. وكاستجابة لمقتل أحد سجناء سجن سان كوينتن في كاليفورنيا، قام حوالي 1000 سجين بالانقلاب والسيطرة عليه، واحتجزوا 33 شرطي كرهائن لتنفيذ مطالبهم، وبعد انتهاء عملية التفاوض التي دامت أربعة أيام، استعادت شرطة الولاية السيطرة على السجن، لكن بعد قتلها لما مجموعه 39 شخص على الأقل، منهم 10 رجال شرطة ومدنيين آخرين.

يأتي عنوان الفيلم بالإنجليزية (Dog Day Afternoon) من مصطلح يوناني كان يُستخدم لتفسير الأثر المناخي في الفترة الزمنية ما بين الأول من شهري يوليو وسبتمبر (حسب القارة)، حيث يبرز في السماء نجم اسمه سايروس، فيجاور الشمس ويزيد من حرارتها، بالإضافة إلى أن المصطلح بات يُستخدم حديثاً للإشارة على الانخفاض والركود المؤقت في الوضع الاقتصادي. ويشير هذا العنوان في الفيلم إلى هاذين المعنيين بطريقة أو بأخرى، فأحداثه تدور في يوم صيفي حار جداً، وبأبطاله بحاجة ماسة للمال. يقوم المخرج سيدني لوميت بسرد الفيلم بذات هذه السخونة مستعيناً بالمناخ الحار وبأجواء مدينة نيويورك الصاخبة في أوائل فترة السبعينات، وهي فترة اقتراب نهاية الحرب الفيتنامية، حيث شهدت تصاعداً ملحوظاً لاحتجاجات واستنكارات الشعب الأمريكي لتلك الحرب، وعودة الكثير من محاربيها إلى الولايات المتحدة وأفئدتهم تضخ بدماء الحقد والضغينة تجاه حكومتهم وبيئتهم الاجتماعية.

يحكي الفيلم قصة واقعية تدور حول محاولة سطو أحد المصارف خلال يوم شديد الحرارة في عام 1972، وقد استند الكاتب فراك بيرسن السيناريو – الأوسكار الوحيد للفيلم – عن مقال صحفي بعنوان “الأولاد في المصرف” لبول فريدريك كلوج عن مجريات ذلك اليوم وجميع أطراف تلك الحادثة وتأثيرها على سكان مدينة بروكلين، بولاية نيويورك. يصور لوميت في افتتاحية الفيلم بعض الأماكن العامة المختلفة ما بين الشواطئ والأحياء الفقيرة والغنية وناطحات السحاب (نلمح ظهور زوجة سوني مع طفليهما) قبل أن نستقر عند سيارة سوني وصديقيه خارج المصرف وهم يعاينون المكان تأهباً لسرقته. نتعرف على شريكيه في العملية، ستيفي (غاري سبرنغر) وسال (جون كازال)، ولا يبدو على أحد منهم أنه يمتلك أية مهارة أو دراية مسبقة بأساليب السرقة الناجحة، وهذا ما يثبته ستيفي مبكراً، بانسحابه من الفكرة فور دخوله المصرف، فيتحتم على سوني وسال الآن التعامل مع المسألة لوحدهما في وجه مدير الفرع وموظفاته.

يبدأ سوني بإجراء خطوات احتياطية تساعده على إنجاز العملية، كإسدال الستائر وتغطية عدسات كاميرات المراقبة برذاذ الرش، ولأنه كان موظف مصرفي سابق، فهو يعلم نوعية المفاتيح التي تعمل على إطلاق جهاز الإنذار فيكشف محاولة مدير الفرع لفعل ذلك، ويعلم الطريقة الآمنة لسحب المال من الصندوق. ما لم يكن يتوقعه سوني بالطبع هو أن لا يجد بالمصرف بأسره سوى مبلغ 1100 دولار والقليل منه في صناديق الصرافة والشيكات، وأثناء محاولته لتجهيز أموره والخروج من المصرف بالمال الذي وجده، يتلقى مكالمة هاتفية مفاجأة وأول جملة يسمعها عند التقاطه للسماعة تقول “ماذا الذي تفعله؟ أنا المحقق العريف سارج يورين موريتي أيها الأحمق، لقد قضي عليك”. في الحال، تقوم كل من الشرطة والتحقيق الفيدرالي بمحاصرة المكان وبأعداد مهولة من السيارات والمروحيات، فيشتعل فضول سكان الحي لمعرفة سبب كل هذه الجلبة، وتصبح هذه العملية محط أنظار الجميع من أطفال إلى شيوخ، وحدث مثير لتغطية وسائل الإعلام. بينما سوني وسال يسقطان أرضاً من شدة الذهول.

يضطر سوني وقتئذ بقبول التفاوض مع المحقق موريتي (تشارلز دارننغ)، الذي يوفر خط هاتفي مباشر بينهما للتوصل إلى حل يرضي الطرفين، أو ربما طرفه فحسب. وعلى الرغم أن موريتي يوافق على تلبية طلبهما بالحصول على وسائل متتالية للخروج من هذا المأزق، بدءاً من توصيلة للمطار ومن ثم مروحية خاصة تنقلهما من مكانهما إلى دولة معينة يختارانها، مقابل تسليمه رهينة في كل خطوة، إلا أن الضغوط تزداد على سوني وسال مع مرور الدقائق والساعات. حيث يحاول موريتي فعل ما بوسعه لتضييق الخناق عليهما، ويستعين بكافة الوسائل للقيام بذلك. فيشرع في البحث عن نقاط ضعف يساوم بها سوني، بدءاً من صديقه الشاذ ليون (كريس سراندن)، حيث يتضح أن سوني ثنائي الجنس (من لا يمانع معاشرة النساء والرجال) كان هدفه من هذه سرقة بالأساس هو توفير المال ليتمكن صديقه من إجراء عملية تحوله إلى امرأة. يلجأ موريتي كذلك خلال المجريات لاستدراج سوني من خلال إقناع والدته بالقدوم إلى البنك لتؤثر على ولدها عاطفياً وتنحيه عن فعلته هذه.

سوني الآن في مواجهة الجميع.
وآل باتشينو باختياره أن يؤدي دور رجل شاذ في سبعينات القرن الماضي، في مواجهة الجميع أيضاً.

نيويورك لوميت هي الشعور فقط. لا شك أن سيدني لوميت يعد من مخرجي نيويورك قلباً وقالباً، بيد أن مدينته لا تحظى عادةً في أفلامه على توظيف شخصي أو أسلوبي خاص كحال مارتن سكورسيزي أو وودي آلين، غالباً ما يضفيها كخلفية تدور فيها الأحداث دون أن تكون بالضرورة ذات تأثير طاغي ومداهم على مساق القصة وشخصياتها. أبطاله يأتون منها جسدياً وفكرياً لكنها لا تقحم نفسها في القضية التي تلفهم ولا تدفع بهم دائماً لفعل ما يفعلونه. حتى مع حيوية حضورها هنا، فهي تبقى طوال الفيلم خلف الخط الأمامي لصراع الشخصيات وإثارة الحكاية، وهو الأمر الذي يُكمل سردها بطريقة تناسب ما نراه على الشاشة كمحصلة أخيرة. ولأن تشويق فكرة السطو المسلح هو العامود الفقري لفيلم (ظهيرة حارة)، يصب لوميت تركيزه هنا بأن يبقي على انتباهنا حتى النهاية (تلتقط كاميراته كافة وجهات النظر)، وينجح بذلك تحديداً بتعريفنا على خلجات ومسامات جميع شخصياته مستخدماً حس الفكاهة والدراما الخفيفة، وتقديمه لدراسة شخصية عن رجل كظم غيظه لسنوات طويلة، وحينما أتيحت له فرصة التعبير، وجد نفسه يعبر عن حال شخصٍ آخر.

لا تقتصر عملية التفاوض على المواجهة ما بين سوني والمحقق موريتي، حيث يبرز دور مكتب التحقيق الفدرالي وتدخله في كل حركة يأتي بها موريتي، ويمثله هنا العميل شيلدون (جيمس برودريك). هذه الحلقة الثلاثية والنزاعات التي تدور بينها، تعطي إشارة ضمنية مبسطة حول التمرد والثورة على النظام المؤسسي للدولة والمدينة، كما نلحظ أهمية التسلسل الوظيفي ما بين موريتي وشيلدون والفارق بين الصلاحيات المخولة لهما واختلاف أساليب عملها ما بين لغة الشارع الجامحة مع موريتي وتكتيك شيلدون الرزين.

سوني جاء ثائراً بالأساس من منزله ومن فقره وظروفه الاجتماعية قبل حتى أن يدخل ذلك المصرف، فقد عاش متقوقعاً تحت عجزه في تلبية متطلبات الحياة اليومية، ومتستراً على ميوله الجنسية الذكرية، ومحافظاً على رباطة جأشه وكرامته التي منعته لأن يمد يده بطلب المال من والديه. غير أن ذكاء لوميت باختياره المصرف كمكان مغلق مادي غير مؤسسي لكي يُعبر به سوني عن ما تكتم به طوال حياته، يؤكد ازدواجية أهداف الفيلم لإيحاء جبروت النظام الحاكم، بفصل عمل المكيف في أوج الحرارة وبقطع الكهرباء عن الموجودين داخل المصرف بغض النظر عن حالتهم الصحية أولاً، وبعرض مدى السرعة التي تتشكل بها صورة البطل الأمريكي المستضعف ما دام أنه يعادي المؤسسة ثانياً.

وهنا تكمن رسالة الفيلم. فانتبه أن العلاقة التي تتطور بين سوني وموظفات البنك تعكس روتيناً بليداً يعشنه، لدرجة أنهن يتأقلمن ويتفهمن تلقائياً مع شخصيته وطباع سال الغريبة، لاشتراكهن في نفس الخلفية المكانية المعدومة، وقلة الحماس والتجديد في حياتهن. النظام لم يزرع فيهن ذلك الحب ليدافعن عنه من فعلة سوني النافر أيضاً من ذلك النظام. من جهة أخرى، نجد أن سال يرتعش من فكرة قتل أحد الرهائن وفي نفس الوقت يمثل مقدرته على ذلك، ويعتبر التدخين للضعفاء فقط ويعتقد أن “وايومنغ” هي دولة بحد ذاتها. من الواضح إذا أن سوني الذي يعلن في أول الفيلم أنه رجل كاثوليكي لا ينوي إيذاء أحد، وعلاقته مع سال تقدم لنا التعريف الأوضح عن عقليتهما والمستوى الثقافي الذي يأتيان منه. صمت سال المطبق في الكثير من الأحيان وانفجاره غاضباً في أحيان أخرى يحكيان الكثير عن رجل يسعى جاهداً أن يعطي انطباعاً مريباً حوله، لكنه يعلم تماماً أنه لم يُخلق على الإطلاق ليتقمص هذا الدور ولم يتمرن عليه أبداً (وملامح وجهه في المشهد الأخير للفيلم توضح ذلك تفصيلاً).  

تدخل شخصية ليون في منتصف الفيلم، ويُرحب به سوني ويهنئه على عيد ميلاده، بينما ينهار ليون فور رؤيته وسماع صوته. كان سوني قد أرسل بطلب ليون دون علم موريتي أنه قد أعطاه عنوان زوجه وليس زوجته. بالطبع تصوير علاقة لوطية سينمائياً لم يكن أمراً شائعاً أو محبباً آنذاك، ولعب آل باتشينو لذلك الدور أيضاً واجه انتقادات جماهيرية ملحوظة كما يُعرض في الفيلم من استهجان في الأوساط المحيطة للواقعة، من عامة الشعب وضباط الشرطة، ولا ينسى لوميت كذلك توفير بعض اللقطات لأصحاب تلك الميول الجنسية كذلك. وعندما يتسنى لليون التكلم عن سوني، يبدو أن علاقتهما في وضع سيء، تارةً يصفه بالجنون وتارةً أخرى بأنه أب رائع لطفليه. لا يبدو ليون في هذا المشهد شاكراً لما فعله سوني من أجله، ولا يريد أن يورط نفسه بأي شكل من الأشكال، ويتبين لنا ذلك خلال المكالمة الهاتفية بينهما، حيث يصوره لوميت متشبثاً برداء الاستحمام ومرمياً على كرسيه إلى يمين الشاشة، ونكاد لا نلحظ من أين يأتي صوته، وكأنه نكرة دون أهمية تذكر، وعندما يمتنع ليون عن السفر معه، ينهي المكالمة بحركة رأس شاذة طفولية تمزق أحاسيس سوني وتدفعه للاتصال بزوجته عن باقي البشر.

سوني يخاطب نفسه. جميع محاولاته في التواصل مع كافة شخصيات الفيلم تشير للأيام التي قضاها وهو يحاول إرضاء الجميع، من طريقة عنايته واهتمامه بطلبات موظفات البنك، وخصوصية علاقته مع سال ورغبته بأن يحقق له ما يريد، إلى زوجته التي عندما يهاتفها تجعل من نفسها الضحية “أنا خائفة، هل سيطلقون علي النار؟” وتتناسى أن سوني محاصر بالشرطة والعامة والإعلام، وينعقد لسانها عندما يسألها عن الحب. وبالتالي نتفهم أن زواجه من ليون كذلك يأتي بدافع الإنقاذ، برغبته أن يلعب دور المنقذ في حياة أحدهم طوال الوقت، لكن عندما يجده متجرد الامتنان عن ما فعله له كي يجري عمليته، يقرر في وصيته أن يترك أمواله كلها لزوجته آنجيلا ولطفليه، فربما يكبران ويحققان ما لم يتمكن هو من تحقيقه.  

 لا يكتفي سيدني لوميت بسلاسة عرضه للمشاهد وصدقه في تصوير كلمات السيناريو من فراك بيرسن على الشاشة، بل يحيك خاتمة الفيلم بواحدة من أفضل اللقطات التي قدمها على الإطلاق، مستعيناً بعمق إمكانيات آل باتشينو التمثيلية. تمعن في اللحظة الأخيرة التي يرى بها سوني أن كل واحد من الرهائن يهنئ الآخر بسلامته، نعلم هنا أنه لم يؤذي شخصاً واحداً في الفيلم ولم ينوي فعل ذلك في حياته، بل عمل جاهداً ليكون عوناً للأشخاص المحيطين به، إلا أنه عندما يلتفت يميناً وصوت الطائرات يعم المكان كسراب حلمه، يقشع بمقلتيه رفيقه سال ميتاً برصاصة في رأسه، ضحيةً لمهمةٍ كان قد أقنعه بها وبنجاحها، فتتجمد عيناه وهو يراقبه يرتحل بعيداً وكأنه الفاعل والمسؤول عن موته، فتنهمر دموع سوني من الداخل آسفاً نادماً ومتألماًَ عن تسببه بمقتل الشخص الوحيد الذي آمن به ورافقه مخلصاً على نقيض كل من حاول إنقاذهم من قبل، ومناجياً بالتمني لو كان هو مكانه. يُغادر سوني المكان بأداء دقيق لن يتكرر من آل باتشينو، بعزاء صغير، أن أحدهم قد أصغى إليه ولو لمرة واحدة على الأقل، وفي النهاية، مات من أجله.

لا تعليقات بعد على “Dog Day Afternoon – 1975

اترك رد

اكتشاف المزيد من كلام أفلام

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading